بعد أيام قليلة يعتلي الرئيس الجديد كرسي الحكم، والرئيس الجديد سيأتي محاصَراً بجماهير قاطع الجزء الأكبر من كتلتها الانتخابية التصويت في المرحلة الأولى من الانتخابات، وصُدم الجزء الآخر الذي شارك فيها من النتيجة التي وضعته أمام خيارين لا مفر منهما في المرحلة الثانية، الخيار الأول «شفيق»، رجل الدولة الذي يمثل نظام مبارك والذي حكمت المحكمة الدستورية لصالحه بعدم دستورية قانون العزل السياسي ليستمر في المنافسة، والخيار الثاني، محمد مرسي، الذي يمثل جماعة الإخوان المسلمين، حائزة الأغلبية في البرلمان الذي تم حله بموجب حكم صادر من ذات المحكمة وفي ذات اليوم، والذي يستدعي ذكره هو وجماعته المفاوضات التي خاضتها الجماعة مع العسكر وأدت إلى تفكيك الزخم الثوري.
الرئيس الجديد والمجلس العسكري
الأمر الأهم من نجاح مرسي أو شفيق هو الإجابة على سؤال هل حقاً سيسلم المجلس العسكري السُلطة كاملة لأي منهما فور انتهاء الانتخابات وحلف اليمين الدستورية أم لا؟
تطورات الفترة الأخيرة تقول إن المجلس العسكري سيظل محتفظاً بموقع جوهري داخل مؤسسة السُلطة ومركز صناعة القرار السياسي، وذلك من واقع منح قوات الشرطة العسكرية ورجال المخابرات الحربية صفة الضبطية القضائية التي تمنحهم سُلطة استيقاف المدنيين واحتجازهم وإحالتهم إلى جهات التحقيق، وأيضا من واقع حل البرلمان واسترداد المجلس العسكري للسُلطة التشريعية التي لم يتخلَّ عنها يوماً وإعلانه الشروع في تشكيل الجمعية التأسيسية للدستور.
وهذا يبين أن الرئيس القادم لن يكون مستقلاً عن المجلس العسكري، خاصة أن الأخير، بالتعاون مع شبكة الحزب الوطني ورجال الأعمال وكل من تتعارض الثورة مع مصالحه، سيبذلون قصارى جهدهم حتى لا يحصل الإسلاميون على ذات النسبة التي حصدوها في انتخابات البرلمان المنحل، وبالطبع سيدفعون بأكبر عدد من المرشحين المعادين للثورة والمنحازين لهم، وهو ما سيجعل الرئيس الجديد ذا سُلطات محدودة، وشاء أم أبى سيكون ملكاً ليمين ويسار المجلس العسكري الذي سيظل موجوداً في الحياة السياسية، ولن يذهب إلى ثكناته بالانتخابات، مثلما حاولت بعض القوى إيهامنا بذلك على مدار الشهور الماضية.
مسار الثورة
مخطئ من يتصور أن اللعبة ستنتهي بجلوس الرئيس على عرش النظام الذي لم يسقط بعد، وأن الجماهير ستجنح إلى الاستكانة والانتظار حتى يحقق الرئيس المنتظر أحلامهم المغدورة في العدل والحرية، بل على العكس تماماً، فإن الانتهاء من الانتخابات الرئاسية يعني وضع ثلاث مؤسسات، (الرئيس، البرلمان القادم، المجلس العسكري)، في مواجهة أحلام وطموحات الشعب المصري، ومن واقع صراعات السلطة التي ميزت الشهور الماضية، وأداء مؤسستي المجلس العسكري والبرلمان، وخروج من يُسمَّون بـ(مرشحي الثورة) خارج سباق الرئاسة، وحل البرلمان، نستطيع أن نقول إن التناقضات بين مؤسسات السُلطة ستكون طفيفة، وستتم تسويتها (على الترابيزة وتحتها) بعيداً عن الإرادة الشعبية التي يرى القائمون على هذه المؤسسات أن دورها انتهى بوضعهم على قمة السلطة، وبما يحمي مصالح القوى الاجتماعية التي تمثلها هذه المؤسسات، وهو ما سوف يترتب عليه صعود جديد للحركة الجماهيرية عاجلاً أم آجلاً.
هذه العوامل جميعها تشير إلى أن معسكر السلطة بمؤسساته المختلفة بما فيها الرئيس، سيدير ظهره لاستحقاقات الثورة، منشغلاً بتقسيم السلطة والصلاحيات والدستور وانتخاب البرلمان مرة أخرى فضلاً عن موجة القمع المتوقعة إذا ما كسب الرئاسة المرشح أحمد شفيق، وبدرجة قد تكون أقل إذا ما كسبها مرسي.
والبعض قد يرى أن هذا الصراع هو في حد ذاته معركة ديمقراطية بامتياز يجب أن نشتبك معها ونحولها لمعركة كسب أرض وانتزاع تنازلات من السلطة، إلا أن هذا الأفق يعيد إنتاج أخطاء معسكر الثورة خلال موجة النضال التي بدأت مع 25 يناير، هذا المعسكر الذي حصر نفسه داخل المعارك الانتخابية فقط، وبالتالي ليس أمام القوى الثورية إلا استكمال النضال من أجل تحقيق أهداف الثورة دون أية أوهام حول انحياز أي من فرق السلطة للجماهير، وأيضا دون الاستسلام لفزاعات القمع والسيطرة واحتكار السلطة التي تنتظر الثوار بعد الانتخابات والتي يروج البعض لها على أنها أمر مسلم به سوف تقف الجماهير عاجزة أمامه دون أن تقاومه.
حتمية المشروع السياسي الثوري
يتحتم على القوى الثورية أن تصوغ رؤيتها لمرحلة ما بعد جلوس الرئيس انطلاقاً من تحدٍّ أساسي يكمن التغلب عليه في الإجابة على سؤال «كيف يرتبط معسكر الثورة بأوسع قاعدة جماهيرية ممكنة على أساس الارتباط الوثيق بين تحقيق مصالح هذه القاعدة وطموحاتها وإنجاز أهداف الثورة؟».
الإجابة على هذا السؤال ليست صعبة أو مستحيلة، إذا ما تضمنت رؤية الثوار توجهاً عملياً واضحاً يضع على رأس أولوياته المطالب الاجتماعية والاقتصادية للناس، رابطاً إياها بالاستحقاقات السياسية والديمقراطية، وبذلك يعالج الثوار النقص الشديد الذي ميز خطاب القوى السياسية على مدار شهور الثورة والذي أدى إلى انفضاض مئات الآلاف من حولهم، كما يجب أن يرتبط هذا التوجه باستهداف القطاعات الأكثر تنظيماً في المجتمع كالعمال والموظفين والطلاب، وهؤلاء قدموا أوراق اعتمادهم للثورة مرات عديدة إلا أنهم لم يجدوا المظلة السياسية التي يلتفون حولها.
كما يجب أن ترتبط تحركات الثوار بغرس جذور لهم في كل الأحياء والمحافظات من خلال إعادة الاعتبار لفكرة اللجان الشعبية التي تدافع عن حقوق المواطنين أو من خلال أشكال اقتصادية كالتعاونيات، وهي أشكال لا بد منها لمواجهة تقدم الثورة المضادة في الشارع المصري.
إلا أن هذا التوجه سيظل مقصوراً على قوى ضعيفة التأثير إذا لم يصب داخل جبهة ثورية آن أوان تشكيلها الآن تجمع كل الكتل الثورية المنحازة لاستمرار الثورة وانتصارها، وتضع لنفسها خطا سياسياً واضحاً لها وللجماهير.
هذه الجبهة يجب أن تتعلم من أخطاء ما سبقها من جبهات كـ«ائتلاف شباب الثورة»، أو «المجلس الوطني»، وغيرها من التجارب الأخرى التي بدأت بحماس شديد وفرص جيدة للتوسع والانتشار، وانتهت نهايات غير سعيدة بسبب نخبويتها وعدم تجانسها الفج، وجنوح بعض أطرافها للجلوس على مائدة التفاوض والحصاد المبكر الذي لم يأت بغير الثمار المرة.
هذا هو ما تبقى للثورة، جماهيرها التي لم تذق بعد حلاوة الانتصار لكنها لم تيأس من التطلع إليه، وطليعتها التي لا تزال مستعدة لأن تدفع دماءها ثمناً لانعتاق مصر من قبضة طغاتها، إلا أنه ينقصها المشروع الثوري الذي تتوجه به للشارع، وهو إذا ما تحقق ستكون للثورة فرص كبيرة لتحقيق الانتصار.
[عن "المصري اليوم"]